أحدثت تقنية بلوكتشين ثورة في عالم البيانات الرقمية والمالية. وقد لفت مفهوم السجلات اللامركزية المقاومة ضد التلاعب والرقابة من طرف الجهات المركزية انتباه كل من المطورين والمستخدمين على حد سواء. ومن أكثر الجوانب اجتذابًا حول تقنية البلوكتشين هو عمرها المحتمل، إلا أن موضوع إنشاء بلوكتشين "خالد" يتطلب دراسة أعمق.
طبيعة البلوكشين
البلوكشين هو عبارة عن سجل موزّع الذي يقوم بتخزين البيانات في شكل سلسلة من كتل، حيث تحتوي كل كتلة على بيانات المعاملات ورابط الكتلة السابقة. والبيانات هذه محمية محمية تشفيريًا ويتعذر تعديلها، الأمر الذي يجعل البلوكشين حلاً مثاليًا لحفظ سجلات المعاملات، إلا أنه لا يضمن توافرها إلى الأبد.
التحديات التي تواجه استدامة البلوكشين
تقنيات البلوكشين قيد التطوير المستمر. والبروتوكولات التي تبدو موثوقة في الوقت الراهن قد يعفى عليها الزمن قريبًا. وتقدم التقنيات الجديدة درجة أفضل من الأمان والكفاءة، لكنها قد تعرّض أنظمة البلوكشين الراهنة للخطر. كما أن العديد منها تتطلب كميات كبيرة من الطاقة لإبقاء الشبكة قيد التشغيل. وقد يتحول هذا الأمر في المستقبل إلى مشكلة، بالأخص عند ظهور حاجة إلى الامتثال للمعايير البيئية.
ولا يجب التغاضي عن حقيقة أن البلوكتشين عرضة لتهديدات المخترقين الذين قد يحاولون استهداف الشبكة عن طريق تعديل بياناتها أو حذفها. وبالرغم من أن البلوكتشين يتسم بدرجة عالية من الحماية، لكن لا شيء يؤمنها من الاختراق بنسبة مئة بالمئة. كما أن المعلومات المسجلّة في البلوكتشين في الوقت الراهن قد تفقد حيويتها في غضون بضعة عقود. إلا أن تقنية البلوكتشين ستخزن هذه البيانات رغم ذلك، مما قد يؤدي إلى زيادة الضغط على الشبكة بمعلومات التي لا يستخدمها أحد.
تترقب التهديدات المختلفة البلوكتشين ليس من الناحية الأمنية فحسب، فأحد المشكلات الافتراضية قد تكمن في انقطاع الكهرباء على المستوى العالمي. وقد يحدث هذا، ولنقل، بعد كارثة طبيعية التي ستؤثر سلبًا على المجال المغناطيسي لكوكب الأرض. وفي هذه الحالة، حتى ولو توافرت أنظمة احتياطية موثوقة لتوليد الطاقة الكهربائية، إلا أن الأجهزة الإلكترونية على كوكبنا ستتوقف ببساطة عن العمل. يبدو الأمر وكأنه من وحي الخيال، إلا أن الحالة هذه نوقشت في مقال Binance Square.
تتطلب العديد من شبكات البلوكتشين توافقًا بين الأطراف المعنية لإدخال تعديلات فيها. فإذا قرر أفراد المجتمع الرئيسيين الإنتقال إلى بروتوكول مختلف، فقد يتم التخلي عن شبكة بلوكتشين قديمة، حتى ولو استمر وجودها فنيًا.
الحلول المحتملة: بروتوكولات ونهج واستراتيجيات طويلة الأجل
إن تطوير بروتوكولات مرنة قادرة على التكيُّف مع التغيير والتحديثات قد يساهم في إطالة عمر البلوكتشين. واستخدام الأنظمة الهجينة التي توحد بين مزايا التقنيات المختلفة قد يضمن أساسًا أكثر استدامةً من ناحية التكلفة حفاظًا على البيانات وتحديثها. وقد تقلل خوارزميات حفظ البيانات التي تؤرشف البيانات القديمة مع التركيز على المحافظة بالمعلومات الراهنة من الضغوط المفروضة على الشبكة. وإنشاء أنظمة لامركزية لتخزين البيانات وإدارتها قد يساهم بدوره في تقليل المخاطر المتعلقة بتقادمها وهشاشتها.
تقنيات تخزين البيانات على المدى الطويل في البلوكتشين: مخازن الحمض النووي وذاكرة النانو الخزفية
لا تقتصر تقنيات البلوكتشين على تأمين البيانات وضمان شفافيتها فحسب، بل إنها أيضًا تفتح آفاقًا جديدة في مجال التخزين طويل الأجل. وتعد أساليب تخزين البيانات القائمة على الحمض النووي والذاكرة النانوية الخزفية من أكثر المجالات الواعدة في هذا الإطار. تابعوا تفاصيل ماهية تخزين البيانات على المدى الطويل في مقال GN Crypto.
آلية عمل تخزين البيانات بناءً على الحمض النووي
تستخدم مخازن الحمض النووي وظائف فريدة من جزيئات الحمض النووي من أجل تخزين كميات كبيرة من المعلومات. ويكمن مبدأها التشغيلي الرئيسي في تشفير البيانات الثنائية في تسلسل النيوكليوتيدات (A, T, C, G)، والتي تشكل أساسًا للحمض النووي. والكيلوغرام الواحد من الحمض النووي يسع لتخزين ما يصل إلى 215 بيتابايت (ما يعادل 215 مليون جيجابايت) من المعلومات؛ الأمر الذي يمكِّن من تقليل الحيز المادي اللازم لتخزين البيانات بشكل كبير.
ويجوز القول إن الاستدامة تعد من أبرز مزايا هذه الطريقة (من سمات الحمض النووي أنه مستقر بشكل مطرد ويقبل التخزين في ظروف مواتية لآلاف السنين دون خسارة المعلومات)، إضافةً إلى أنها سليمة بيئيًا (على عكس الخوادم التقليدية ومراكز تخزين البيانات، لا يتطلب الحمض النووي كميات كبيرة من الطاقة لإبقاء قيد التشغيل)، كما أنها تقدم نموذجًا أمنيًا جديدًا مع إمكانية تكامل البيانات المسجلّة بالحمض النووي مع البلوكتشين.
وقد شقت مخازن الحمض النووي طريقها في مجالات تطبيقية مختلفة، بدءًا من تخزين البيانات الطبية ونقلها لأطراف أخرى إلى أرشفة البحوث العلمية وعناصر التراث الثقافي. هكذا، مثلاً، تُستخدَم تقنيات الحمض النووي لإنشاء مكتبات للمعلومات الوراثية التي يمكن أن تساهم في علاج الأمراض الوراثية.
أساسيات تكنولوجيا ذاكرة النانو الخزفية
تعد ذاكرة النانو الخزفية من الطرق المبتكرة لتخزين البيانات حيث إنها تستخدم هياكل نانوية تصنّع من المواد الخزفية. وتتيح هذه التقنية المبنية على التأثيرات التي تحدث على المستوى النانوي من تسجيل البيانات وقراءتها بكثافة وسرعة عاليتين.
ذاكرة النانو الخزفية مقاومة لتأثيرات البيئة المحيطة لأن المواد هذه تتسم بالمقاومة الحرارية العالية وانعدام الحساسية للحقول الكهرومغناطيسية. وتقول الأبحاث أن ذاكرة النانو الخزفية قادرة على حفظ البيانات لعدة ملايين من السنين، مما يجعلها حلاً موثوقًا لتخزين البيانات الحيوية على المدى الطويل. كما أن التقنية هذه تتكامل بسهولة مع أنظمة راهنة لتخزين البيانات ومع تقنية البلوكتشين، مما يعزز من تأديتها الوظيفية ودرجة الأمان عند تخزين المعلومات.
تطبق ذاكرة النانو الخزفية في مجالات مختلفة، من ضمنها تكنولوجيا الفضاء والتقانات العسكرية ومسك المحفوظات. فعلى سبيل المثال، يمكن تطبيقها لتخزين البيانات المناخية على المدى الطويل، والتي من الممكن أن تؤدي دورًا حيويًا في دراسة التغيُّرات المناخية على كوكب الأرض.
الجوانب الأخلاقية لشبكات البلوكتشين الخالدة
من أبرز الجوانب لسلاسل الكتل الخالدة أنها لا تقبل التغيير. ولو أن السمة هذه يجوز اعتبارها إيجابية في سياق المحافظة بالسجلات، إلا أنها لا تخلو من العواقب السلبية المحتملة التي لا بد من وضعها بعين الاعتبار. فمثلاً، إذا ثُبتَت في البلوكتشين مناقشات شخصية، فإن موافقة الأطراف المعنية على نشر المعلومات هذه قد لا يفي بالغرض. وفي هذه الحالة، سؤال يطرح نفسه: هل الحق في النسيان أحد حقوق الإنسان؟ كيف سيتم إيجاد حلول مناسبة إذا يعفو الزمن على المعلومات المدخلّة في البلوكتشين، أو إذا تكون غير صحيحة أو حتى مضرة؟ نوقشت القضايا الأخلاقية هذه وغيرها في مقال Medium.
يمكن أن تحتوي سلاسل الكتل الخالدة على بيانات مجهولة المصدر والقابلة للتعريف حيث تعد مسألة السرية من المسائل الحيوية جدًا لأن تسرب أدنى حد من المعلومات قد يؤدي إلى عواقب كارثية. موضوع حقوق المستخدمين في حماية بياناتهم الشخصية وإدارتها من المواضيع الهامة جدًا من الناحية الأخلاقية. لذا، سيتوجب تطوير نوعًا من مفهوم لحماية حقوق الخصوصية في ظروف حيث تكون البيانات مفتوحة المصدر ومخزنة إلى أجل غير مسمى.
ومع إنشاء سلاسل الكتل الخالدة يبرز أيضًا بند المسؤولية. فمن سيكون مسؤولاً عن المعلومات المثبتة بشكل لا رجعة فيه في البلوكتشين؟ فعلى سبيل المثال، إذا ألحقت معلومات ما ضررًا أو انتهكت حقوق الإنسان، فمن سيحاسب على ذلك؟ المسألة هذه قد تثير معضلات قانونية وأخلاقية التي ستوجب تطوير نهج جديدة بإدخال تعديلات في التشريعات والمعايير الأخلاقية المناسبة.
كما يجب مراعاة العواقب الاجتماعية حيث إن هناك مخاطر من إمكانية استخدام التقنيات الخالدة من هذا القبيل للتلاعب بالرأي العام أو نشر معلومات مضللة. والمسألة هذه لا تخلو من تساؤلات التي تتعلق بتأثير تقنيات البلوكتشين الخالدة على ديناميكية العلاقات المتبادلة بالمجتمع. فقد تعمّق التقنية هذه الفوارق الإجتماعية القائمة إذا اقتصر الوصول للمشاركة في الأنظمة من هذا القبيل على مجموعات مختارة.
يبدو إنشاء سلاسل الكتل الخالدة كليًا هدفًا مثاليًا، إلا أن هذا لا يستبعد إمكانية اختراع أنظمة أكثر استقرارًا واستدامةً. فتطوير تقنيات المتكيّفة مع التغيير والاستراتيجيات التي تراعي مخاطر محتملة قد يزيد من عمر تقنية البلوكتشين بشكل كبير. سوف يستمر تطوير البلوكتشين كمفهوم، ويعتمد مستقبل هذه التقنية على قدرة المطورين والمجتمعات على إيجاد حلول مبتكرة للمسائل القائمة. إلا أن الجوانب الأخلاقية في سلاسل الكتل الخالدة تتطلب دراسة دقيقة وفهمًا عميقًا.
لا بد من إيجاد أساليب جديدة لتنظيم المعايير الأخلاقية ومناقشة تفاصيلها وتطويرها على أن تضمن الخصوصية للأطراف المعنية وتقي من العواقب السلبية المحتملة. وينبغي أن تكون مناقشة هذه القضايا جزءًا لا يتجزأ من الحوار المستقبلي عن هذه التقنية لأن مدى تأثير هذه الأنظمة على المجتمع وعلى الإنسان يتوقف على اختياراتنا. ومن المهم أن نتذكر أن التقنيات، بحد ذاتها، محايدة، وأن طرق تطبيقها وسياق استخدامها هي التي تحدد ما ينتج ويترتب عنها من الناحية الأخلاقية.