لطالما أثرت الانتخابات الأمريكية على سوق العملات المشفرة تأثيرًا كبيرًا على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، مشكّلاً تقدمها والتقلّبات فيها. فمنذ ظهور عملة البيتكوين في عام ٢٠٠٩، باتت الأجواء السياسية والاقتصادية المتغيرة من العوامل الحيوية مشكّلاً الأطر التنظيمية للعملات المشفرة والموقف العام منها.
السنوات المبكرة (٢٠٠٠-٢٠١٠)
في بدايات الألفية الثانية كان الوضع في الولايات المتحدة مستقرًا نسبيًا، وكانت العملات المشفرة في بداية تداولها. جرّت أول انتخابات (٢٠١٢)، التي حولت البيتكوين إلى ظاهرة فريدة من نوعها، على خلفية اضطراب الوضع الاقتصادي بعد تداعيات الأزمة المالية في عام ٢٠٠٨. باتت عملة البيتكوين، على غرار الأصول الرقمية الأخرى، عملة بديلة. لم تجلب انتخابات العام ٢٠١٢، حين انتُخبَ باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة، تغييرات ملحوظة في النظام التنظيمي للعملات المشفرة، لكن الاهتمام المتزايد بالأصول الرقمية كان قد وضع حجر الأساس مضمنًا ارتفاع أسعارها.
تزايد الشعبية واهتمام الجهات الرقابية (٢٠١٢-٢٠١٦)
من عام ٢٠١٢ إلى عام ٢٠١٦ نالت العملات المشفرة شهرة واسعة حيث بدأ ملايين من المستخدمين الجدد في اكتشاف إمكاناتها. وفي عام ٢٠١٦، حين فاز دونالد ترامب في الانتخابات، شعر سوق العملات المشفرة بالتغييرات في المناخ السياسي لافتًا على الفور انتباه الجهات الرقابية. أثرت سياسة مكافحة الإرهاب الصارمة وتنظيم المؤسسات المالية على المنهج المتبع في شأن العملات المشفرة معززًا الإجراءات الرقابية في شأنها مع إدخال شروط جديدة فيها، من مثل KYC (اعرف عميلك).
تعقد الوضع أكثر في عام ٢٠١٧ حين بلغت عملة البيتكوين قمتها التاريخية لافتًا الاهتمام إليها بعد أخبار بارزة عن عمليات الطرح الأولي للعملة. على خلفية اضطراب الوضع السياسي وانعدام قوانين دقيقة، لجأ مستثمرون كثيرون إلى العملات المشفرة بحثًا عن "ملاذ آمن" فيها.
التأثير على السوق والتحديات الجديدة (٢٠١٦-٢٠٢٠)
أثرت انتخابات العام ٢٠٢٠ على سوق العملات المشفرة تأثيرًا كبيرًا. فحين تولى جو بايدن الرئاسة بات واضحًا إن تنظيم العملات المشفرة سيكون أكثر صرامةً، مشكّلاً مخاوف وفرص على حد سواء. فخلال هذه الفترة حقق سوق العملات المشفرة أرقام قياسية وبات مقاومًا للتغييرات الثقافية والاقتصادية. وقد ساهم اعتماد الحلول التكنولوجية الجديدة والاهتمام المتزايد من طرف المستثمرين المؤسسيين في تعزيز رسملة السوق.
كما أثرت الأحداث السياسية على الموقف من شبكة إيثريوم ومشاريع التمويل اللامركزي، والتي حينها كانت قد بدأت تكتسب شعبية. وفي أواخر العام ٢٠٢٠ يُمكّننا الاهتمام بالعملات المشفرة من التوصل إلى افتراض أنها باتت من المنتجات الرائجة. والانتخابات الأمريكية تؤكد ذلك، نظرًا لذكر أمر العملات المشفرة من قبل مرشحين كثيرين في إطار حملاتهم الانتخابية.
الآفاق والتطورات الراهنة (٢٠٢١ وما بعده)
منذ عام ٢٠٢١ واصل سوق العملات المشفرة عملية التكيّف مع الظروف السياسية الجديدة وتصريحات الحكومة الأمريكية. وتفترض المشاركة كبرى المؤسسات المالية، من مثل باي بال وتيسلا في عمليات ذات صلة بالعملات المشفرة، حدوث تحولات كبيرة في الموقف من الأصول الرقمية. ولا يزال التوقع مزيد من التغييرات في الإجراءات التنظيمية وتكامل حلول البلوكتشين مع الأنظمة المالية التقليدية على طاولة النقاش.
ستواصل سياسة الانتخابات الأمريكية، بما في ذلك المبادرات التشريعية والتوجه الاقتصادي الجديد، عملية تشكُّل سوق العملات المشفرة. وعند تكوين تنبؤات عن أثر الانتخابات على الأصول الرقمية لا بد للمستثمرين مراعاة الإمكانات والمخاطر المرتبطة بالتغييرات المحتملة في الإجراءات التنظيمية والاستراتيجيات السياسية. هكذا نستنتج إن للانتخابات تأثير متعدد الأوجه على سوق العملات المشفرة، حيث أنها تساهم في تقدمها مشكّلاً طرق تنظيمها وموقف المجتمع من الأصول الرقمية.
انتخابات العام ٢٠٢٤ ووضع سوق العملات المشفرة
تقلّبت معدلات الأسواق المالية بشكل ملحوظ بسبب تشتت الوضع السياسي في أوائل نوفمبر ٢٠٢٤ في إطار الانتخابات الأمريكية، والعملات المشفرة لم تُستثنَى من ذلك. عرض المرشحون طرق مختلفة من أجل تنظيم العملات المشفرة، مضيفًا عوامل إضافية إلى تحليل الأمر. فمثلاً، إذا يقترح أحد المرشحين شروطًا أكثر ملاءمة في شأن حلول البلوكتشين والتمويل اللامركزي، فقد يكون لذلك أثر إيجابي على أسعار العملات المشفرة، في حين أن اتخاذ تدابير تنظيمية صارمة في شأنها قد يعكّر مزاج المستثمرين.
بات فوز دونالد ترامب في انتخابات العام ٢٠٢٤حدثًا بالغًا الأهمية في الحياة السياسية بالولايات المتحدة وفي الأسواق المالية العالمية على سواء، وقطاع العملات المشفرة لا يُستثنى من ذلك، حيث حققت البيتكوين أعلى سعر لها في التاريخ وصولاً إلى ٧٧ ألف دولار، نقلاً عن بينانس.
لا يتوقف ترامب، المعروف بسياساته غير التقليدية ومنهجه العملي في التعامل مع القضايا الاقتصادية، عن إثارة الفضول وسط المستثمرين. وتشير أعماله السابقة بصفة الرئيس ووعوده الانتخابية إلى أن رئاسته الثانية قد تتصف بتأثير متميّز على سوق العملات المشفرة.
المنهج المتخذ في تنظيم العملات المشفرة
اتخذ ترامب موقفًا ازدواجيًا من العملات المشفرة خلال فترة رئاسته الأولى. فمن ناحية، إنه ذكر إمكانات البلوكتشين والحلول الابتكارية ذات الصلة. ومن ناحية أخرى، إنه انتقد البيتكوين كونها تشكل تهديدًا محتملاً للمنظومة المالية التقليدية. وبالتالي، فوز ترامب في انتخابات العام ٢٠٢٤ قد يؤدي إلى إدخال إجراءات تنظيمية تقدمية في شأن العملات المشفرة إذ يقرر دعم الابتكار في هذا المجال. وهذا، بدوره، قد يهيئ ظروف أكثر ملاءمة بالنسبة لمتاجر العملات المشفرة.
إذا تقيّد ترامب للتقاليد التي تليق به مستسلمًا للضغوط من طرف أنصار تكنولوجيا البلوكتشين، فقد نشهد تخفيفًا في تنظيم العملات المشفرة، مما سيؤدي إلى تدفق الاستثمار في هذا القطاع. فبدلاً من اتخاذ تدابير قاسية وممارسة الضغط يمكنُ وضع لوائح تنظيمية مناسبة بحيث تحمي مصالح المستخدم والمستثمر على سواء ميسرًا تطوير التكنولوجيات ونماذج الأعمال الجديدة.
الاستثمارات المؤسسية
مع مراعاة الاهتمام المتزايد من طرف المستثمرين المؤسسيين بالعملات المشفرة، فإن فوز ترامب له دور حيوي في تعزيز الاستثمار في العملات المشفرة. فإذا عززت إدارة ترامب إدخال تقنيات العملات المشفرة في الهياكل المالية التقليدية، فقد يلفت ذلك انتباه كبرى الشركات والمستثمرين. فمن شأن المنهج التوافقي، الرامي إلى تكامل البلوكتشين مع المنظومة المالية، أن يساهم في توطيد أواصر الثقة بالأصول الرقمية واستخدامها على نحو نشط.
وبما أن العديد من المستثمرين المؤسسيين يبحثون عن طرق من أجل تنويع محافظهم الاستثمارية، فقد تصبُ المبادرات القادمة من إدارة ترامب في زيادة الطلب على العملات المشفرة. وهذا، بدوره، سيكون حافزًا قويًا لتغيّر الأصول الرقمية سعرها، مؤديًا إلى زيادة رسملة السوق الإجمالية.
العوامل الاقتصادية العالمية وتأثيرها على العملات المشفرة
ويجب ألا نغفل عن السياق العالمي. ففي ظل اضطراب الأوضاع الاقتصادية التي قد تسببها قرارات سياسية متخذة في إدارة ترامب، سيبحث العديد من المستثمرين عن أصول بديلة من أجل حماية رؤوس أموالهم. فكثيرون يعتبرون العملات المشفرة "ملاذًا آمنًا" الذي يقي من التضخم وتدهور الأوضاع الاقتصادية، مما يجعلها جذابة في ظل التغييرات الاقتصادية والاجتماعية. كما أن تصريحات ترامب بشأن تخفيض ضريبة الاستثمار في التقنيات المبتكرة قد تحثُّ على استخدام العملات المشفرة كشكل من أشكال الأصول.
التوقعات والاستنتاجات
أما فيما يخص المستقبل، قد يشهد سوق العملات المشفرة آفاقًا تنموية جديدة إذا نجحت إدارة ترامب في تنفيذ السياسات الاقتصادية. ومع ذلك، تظل مسألة الحاجة إلى متابعة التغييرات التشريعية وتأثيرها على النظام البيئي الخاص بالعملات المشفرة غير محلولة. فإذا تكون قرارات سياسية من الإدارة مواتية، فقد ينجم عن ذلك ارتفاع ملحوظ في سوق العملات المشفرة. لكن السوق قد يشهد أيضًا تقلّبات حادة وتراجعًا ملحوظًا إذا ركزت الإدارة على إدخال تنظيمات صارمة فيه.
هكذا، يخلق فوز دونالد ترامب في انتخابات العام ٢٠٢٤ سياقًا فريدًا يلزمُ المستثمرين بتحليل الأوضاع بدقة متأقلمًا مع الظروف المتغيّرة. سيخبرنا الوقت عن تطور الأحوال، لكن لا شك أن التغييرات هذه قد بدأت، مشكّلاً مشهدًا جديدًا للعملات المشفرة في المستقبل القريب. يجب أن يكون المستثمرون مستعدين لمفاجآت محتملة وعليهم متابعة تطور الوضع السياسي عن كثب للاستجابة عن التغييرات في عالم العملات المشفرة دون تمهل وتردد.